أدارت المقبض مرتجفة..تدعو
وتدعو،هذه المرة كان بداخلها يقين بإجابة الدعاء.
فعلتها..انتصرت على
الباب الموصد إلا من فرجة خفيفة تأخذ منها مشترياتها من يد البواب. لم تكن تعرف إلى
أين؟،تركت خلفها فرشاة الرسم التى فقدت قدرتها على الغوص فى ألوان البهجة. ليلة شتوية
قارسة..بعض الظلمة والخوف من الطريق شبه الخالى أفضل من وحشة الصمت.
أدخلت يدها المغطاة
بقفاز صوفى فى جيب معطفها،اطمأنت إلى وجود بطاقتها الشخصية وعناوين وأرقام هواتف الأولاد،ابتسمت
ساخرة من مخاوفها واستكملت السير.
ستة أشهر تقريبا منذ
أصيبت بإغماءة عند بائع الخضروات،منذ ذلك اليوم لم تخرج من البيت،كانت تنظر إلى الباب
الموصد وتتخيل ما يمكن أن يصيبها لو عبرته.. تخشى أن تسقط فى مكان ما..تصبح جسدا بلا
حياة على رف ثلاجة ما لعجوز مجهولة الهوية.
كانت ترى الدنيا من النافذة..تتطلع إليها كظمآن يرى الماء ولايستطيع مسه. ترقب
الهاتف..ترفع سماعته من آن لآخر لتتأكد من أنه يعمل..مكالمات الأهل بعيدة..كل مشغول
بنفسه عن الآخرين..ترسم أزهارا ذابلة وسماء رمادية..تمل ثرثرة التلفاز.. تأتنس بقراءة
القرآن فى جوف الليل..آياته وحدها كانت الملاذ والسكن والتربيت الحانى على أوجاع قلبها
الوحيد
أنوار ملونة على واجهة
ما يبدو أنه مقهى..تنمو بهجتها الوليدة..تحس بأنها على وشك تحقيق انتصار آخر..لم تدخل
مقهى فى حياتها من قبل ..تتألق ابتسامتها الطفولية بين غضون وجهها المتعب..تقرر الإقدام
على ما ظنته مغامرة.
تحت الأضواء الخافتة
وبجوار النافذة الزجاجية المغلقة اتخذت جلستها،لا تفهم كيف لم تأتها فكرة الإحتفاظ
ببياناتها الشخصية فى جيبها من قبل؟! سعيدة جدا لأنها ذكرت نفسها بأن الموت ومكانه
مسألة قدرية لا يجب أن تفسد ما تبقى لها من عمر.
دارت ببصرها فى المكان..رواد
قليلون،ربما بسبب البرد،ستطلب كوبا من القرفة بالحليب وتستمتع بمشاهدة التلفاز وسط
الناس.
أشارت إلى النادل وطلبت ما تريد،فى طريقه إلى الداخل
أغلق الجهاز..تضايقت
وأرادت أن تناديه لولا دندنة عود..عزف حى..انتشت،ملأها إحساس مبهج بأنها من المحظوظين..عود
ومشروب ساخن وبشر..دفء حقيقى يصالح قلبها المتفتح للسعادة توا..ليتها زهدت صمت الجدران
من قبل
خطر لها أن الأولاد
قد يتصلون فينزعجون لعدم وجودها. ابتسمت ساخرة من الكذبة التى اوهمت بها نفسها طويلا..الحقيقة
أنهم لا يتصلون إلا فى الأعياد..
هى التى تقتطع من معاشها
الضئيل ثمن مكالمة شهرية لكل منهما فى غربته!
ما زال العواد يجهز
نفسه بضبط نغمات أوتاره.ارتشفت رشفة.. سرى فيها الدفء.. لحن جميل أحسته نبضا يتعالى
لحياة ترفض أن تتجمد فى العروق..توهج العزف فتجاوبت معه مشاعرها..كانت كمفرج عنه بعد
طول أسر يدهشها صوت جريان النهر ورقص أوراق الشجر وهى تستحم تحت المطر.
أغنية سعيدة لصوت شجى
مميز..تطلعت إلى وجه العازف المغنى،وجه قديم مألوف لا تذكر أين رأته قبلا .
شعره المصبوغ يتوج تجاعيد
عمره الطويل..تحسست بأصابعها منبت شعرها الأبيض تحت غطاء الرأس..تمنت لو صبغته فربما
أنعش تجديده روحها.
أغنية مألوفة أيضا..ضمت
كفيها حول الكوب الساخن وتركت نفسها تنسجم مع الأنغام . لم تستمع إلى تلك الأغنية منذ
زمن بعيد..صفقت بقوة بعد انتهائه وانتقلت لتجلس فى مواجهته.
حاولت أن تتذكره،أغنيته
التالية لا تقل جمالا عن الأولى..هو..نعم هو..صاحب الأغنية الشهيرة التى كانت تذاع
منذ سنوات فى برامج الإذاعة الصباحية..وقتها لم يكد يخلو منها صباح..هو..أمجد رامى!
لا تصدق أن هذا هو ما
آل إليه..مقهى منزو لا يكاد يسمعه فيه أحد!. صفقت بنفس الحرارة،وقبل أن يشرع فى أغنيته
الجديدة انتقلت إلى جواره،حيته مؤكدة له شدة إعجابها به، فابتسم شاكرا..همست على استحياء:
ــ تسمح لى يا أستاذ أمجد أسألك سؤالا محرجا.
أومأ برأسه موافقا،فارتبكت
قليلا ولكنها تشجعت:
ــ أنت فنان له تاريخ
.. لماذا تغنى فى مكان كهذا؟
غامت ملامحه.. أعلنت
رقرقة دمعة لمعت فى عينيه عن أحزان عميقة .. همس وفى صوته ألم يجاهد لإخفائه :
ــ على الأقل أجد شخصا
مثلك يصفق لى ، أما إذا مت فى بيتى فسأضمن
أن صاحب المقهى سيهتم لغيابى .
وجمت بينما انهمك هو
فى عزف مقدمة أغنيته التالية.. أغنية قديمة لعبد الوهاب.. كانت كمن يسمعها للمرة الأولى
.. أمانة إن كنت تقابله تقل له الفرح ناسينى .. كان كمن يغنى لنفسه بينما أحست هى أنه
يقرأ ما بقلبها .. رغما عنها انسابت دموعها .. كانت تتأمل هذا المعذب الساقط من قمة
الضوء إلى ظلمة قاع النسيان .. لاتدرى كيف خرجت تلك الفكرة إلى رأسها .. بدت لها فكرة
مجنونة وربما تتنافى مع الأسلوب الذى عاشت به طوال حياتها .. سيغضب الأولاد دون شك
.. لا بأس ستخفى الأمر عنهم .. ترددت .. حاولت طرد الفكرة لكنها تسلطت عليها تماما.
ما إن انتهى من أغنيته حتى مالت عليه من جديد :
ــ هل علاقتك بصاحب
المقهى جيدة ؟.
أجابها متعجبا :
ــ نعم .
مسحت دمعتها بكفها المرتعشة
وهى ترجوه بحرارة
:
ــ هل يمكن أن تتوسط
لى عنده .. أستطيع أن أرسم وجوه الحاضرين كل ليلة .