السبت، 25 يوليو 2015

قصص‮ ‬

قصص‮ ‬

قصص‮ ‬
23/07/2015 01:35:16 م 

نفيسة عبد الفتاح‮ ‬
‬كنزي
وضعت وسادتين خلف ظهري بينما بخار الشاي بالنعناع الأخضر لايفلح في تنبيهي،‮ ‬قاومت نعاسا طالما أوقف في ليال بعينها أسفار حنيني عبر حدائق ذكرياتي،‮ ‬لطالما اقتطفت من ثمارها ما قوي مناعتي في مواجهة هذا العالم‮ ‬،هذه المرة تشبثت بالقلم خشية أن أفلت الفكرة‮.‬
أردت أن أكتب عن كل من حملت لهم حبا‮..‬سطرت سطرا‮..‬أحسست كلماته باهتة الشعور شحيحة المعني‮.. ‬تعجبت‮.. ‬كنت أظن الفكرة ستكتب نفسها،وأن الكلام سيفيض كما هي مشاعري‮!!‬
توقفت عن الكتابة المتعثرة،‮ ‬أنفاس زوجي الرتيبة تدعوني الي إطفاء مصباحي الصغير والاستسلام،‮ ‬تزاحم بعضهم أمام عيني نصف المقفلتين،‮ ‬عينا أبي رحمه الله الواسعتان المفعمتان بالحب المشعتان بالذكاء والحكمة،انصاته وتصويبه لأخطاء لغتي،نظرته التي تكشف اعماقي،‮ ‬أفعاله التي تدعوني لأفضل قدوة،‮ ‬يد أمي لا حرمني الله منها وهي تربت علي أوجاع قلبي،‮ ‬همهمتها بالدعاء في جوف الليل،‮ ‬تذكرنا اسما اسما،جدودي لها ولأبي وأخوتها وأخوالها وأعمامها،‮ ‬تخيط لي أجمل ما‮ ‬يمكن أن ترتديه فتاة في مثل سني،‮ ‬تجعل من شرائط شعري تيجانا لملاكها الجميل كما تحب أن تدعوني،صبرها الممزوج بالرضا علي ايام الشدة وتضحياتها بكل ما تملك لمؤازرة ابي،‮ ‬تبتسم عمتي التي أقمت معها طويلا بعد أن صارت وحيدة بوفاة زوجها،‮ ‬تمد‮ ‬يدها بكوب الشاي باللبن الصباحي،‮ ‬تسهر الليل في محاولات فاشلة لإيقاظي ــ كما طلبت ــ لأن الامتحانات علي الأبواب،‮ ‬تفوح رائحة الرغيف الصغير الذي كانت تسميه جدتي رحمها الله‮ "‬حنونة‮" ‬تخص به كل حفيد‮ ‬يوم الخبيز،‮ ‬أدور معها في أفراح أقاربها في القري البعيدة،‮ ‬أجلس معها في الصدارة،‮ ‬أرفض الكسكسي بالمرق،‮ ‬فيصنعون لي بمفردي آخر بالزبد والسكر،‮ ‬ألست حفيدة تلك المرأة التي‮ ‬ينحني لها الرجال،ويجلها الجميع،زوجة العمدة مهابة الطلعة،‮ ‬التي حملت هم العائلة كبارا وصغارا وفتحت الدار للجميع في أحلك الظروف،‮ ‬تصنع لي عروستي‮  ‬من القماش المحشو ببقايا ما تخيطه امي،تخيط في الرأس شعرا حريريا من قطعة من فراء الجدي،‮ ‬ترسم فوق القماش شفتين وتكحل العينين بألواني،‮ ‬تطبق كفها علي معصمي وهي تهبني أجمل عروس ضاغطة علي الكلمات‮.. ‬أعز من الولد ولد الولد،‮ ‬زوجي الحبيب،‮ ‬صديق وأب وزوج،‮ ‬اكتشف في كل مرة شعرت فيها بألفة النظرة الأولي مع أي إنسان أنه‮ ‬يشبهه بشكل ما،‮ ‬افتح قلبي لصديقة العمر،ألقي في بئرها أسراري وأوجاعي،‮ ‬تنصت وتحنو،‮ ‬نتقاسم الفرح والهم ويمتلئ قلبانا بالخير لكل الدنيا‮.‬
يغيبون في زحام حياتي أحيانا،‮ ‬لكنهم أبدا لا‮ ‬يضيعون مني،‮ ‬أموات وأحياء تتفاوت اماكنهم في القلب لكنهم‮ ‬يملكون القدرة علي إبقائه مصدقا بالرحمة والحق والعدل مفعما بالحب،‮ ‬اكتشفت انها فكرة ساذجة بالفعل أن أضع كل تلك النماذج الانسانية المدهشة علي ورقة‮.‬
حاولت أن أفكر في شيء إذا ما كتبت عنه كتبت عنهم جميعا‮.‬
عندما فتحت عيني لم أتخيل أنني‮ ‬غفوت،‮ ‬هل‮ ‬يمكن ان نغفو دون أن نشعر؟ منذ دقيقة واحدة كان كل شيء حقيقيا كنت هناك علي ذلك الشاطيء‮.. ‬القارب الغريب‮ ‬يقترب قادما من الأفق البعيد،‮ ‬ألقي أمامي الصياد بكومة صيده‮..‬تركني أفتح محارة وراء محارة‮ ‬،‮ ‬بعضها فارغ،‮ ‬بعضها به حبات لؤلؤ صغيرة،‮ ‬منتظمة أو‮ ‬غير منتظمة‮..‬أفتح وأفتح‮.. ‬أفتش وأفتش‮.. ‬لؤلؤ قليل ومحار فارغ‮ ‬كثير‮..‬وأخيرا‮..‬واحدة كبيرة تضوي‮..‬أجمل وأبدع ما رأت عيني‮..‬قبضت عليها بقوة‮.. ‬كان شعاعها‮ ‬ينفذ من بين أصابعي المقفلة،فتحت عيني علي كفي المطبقة علي قلمي‮..‬كانت ورقتي ما تزال هنا وابتسامة رائقة علي شفتي‮ ..  ‬كتبت وسط السطر"كنزي‮"‬
‬حسم
في طريقي إليه‮..‬كانت حريتي قرارا لن‮ ‬يقبل المساومة‮ ‬مهما امتدت جلستنا لساعات‮.. ‬
في طريق العودة‮..‬بعد ربع ساعة فقط‮ ..‬كانت رائحة باقة زهرة تتسلل من‮ ‬يدي إلي روحي بينما أتأبط ذراعه‮.‬
‬بالأعصاب
زوجة ساخنة‮ ..‬أسخن من أن أستطيع مسها وهي علي‮ ‬تلك الحالة‮.‬
اعتدت منها ذلك بغض النظر عن حالاتها الأخري،‮ ‬لطالما اعتدت أن أراها‮ ‬غاضبة،‮ ‬أو مبتسمة حالمة‮ ‬،أو حزينة باكية،‮ ‬وأحيانا شرسة متنمرة‮. ‬
تبكي‮ .. ‬أشاهد التلفاز دون اهتمام‮.‬
تتنفس بعمق‮ ‬،‮ ‬أظنها تسترد نفسها الآن‮ .. ‬ستأخذ بعض الوقت قبل أن تطلب مني ماهو متوقع تماما‮.‬
تفاجئني هذه المرة بالنهوض والرقص بسعادة طاغية‮ !.‬
‮ ‬ابتسم‮ .. ‬مجنونة‮.. ‬وعلي كل سأنام،‮ ‬ذلك أفضل جدا،‮ ‬فحالتي النفسية لن تسمح لي بإجابة طلبها المعتاد‮.‬
مستجدية متوسلة،رفعت الوسادة التي ضغطت بها علي أذني معلنا انفصالي عن عالمها‮.‬
ــــ أتهرب؟‮!.‬
ــــ أبدا‮.‬
ــــ اقرأ‮.‬
ــــ أنا متعب‮ .. ‬غدا إن شاء الله‮.‬
لا أحتمل نظرة الحزن والغضب في عينيها لكن ماحيلتي وأنا لا أستطيع تذوق الجمال مع الإكراه‮. ‬
لا مفر،سأقرأ مرغما‮.‬
أتساءل بينما عيناي تلتهم ما كتبته‮ :‬
ــ‮ ‬ياربي‮!.. ‬من أين تأتي هذه المرأة بكل هذا الإبداع ؟‮!.‬
‬دنياي
وكأنما حفرت كل تلك الخطوط علي وجهي في‮ ‬غفلة‮ ‬مني‮..‬أحاول تناسيها‮..‬أدندن وأنا أعد الشاي لجلسة العصاري في الشرفة‮..‬الحلوة الحلوة عينيك‮ ..‬ياحبيبي‮..‬تهتف ابنتي بينما‮ ‬يصلني صخب موسيقي توترني من سماعات أذنيها‮..‬شاي الجلسة المقدسة اليومية؟‮.. ‬يصلني صوت أبيها الذي‮ ‬يسقي أصص حديقته الصغيرة‮:‬
ــ خضرة وشاي ونسمة عصاري ووجه أمك‮..‬الدنيا وماعليها
كسور
تلاقت عيوننا‮..‬هل أعرفها؟لم‮ ‬يبد منها مايدل علي‮ ‬ذلك‮ ..‬أكاد أجزم انها هي‮..‬منذ متي لم أرها؟‮..‬لا أحب ان أتذكر وربما سأكره النظر في المرآة الآن‮.. ‬مازال جمالها صاخبا كعباءتها‮  ‬الضيقة المثيرة التي تهدم فكرة الستر التي‮  ‬يفترض أن العباءات صنعت من أجلها‮..‬أراها عبر كتف زوجي الذي‮ ‬يجلس أمامي‮  ‬بينما‮  ‬ظهره‮  ‬للمائدة التي تجلس عليها،‮ ‬إلي جوارها رجل أظنه زوجها‮. ‬
‮ ‬تفتح له هاتفها النقال وتضحك وهي تشير بأصبعها علي شاشته‮:‬
ــ صورتي‮ ‬
انبهاره‮  ‬يدل علي انه‮ ‬يري الصورة‮  ‬للمرة الأولي‮  ‬ويجعلني أتشكك في طبيعة علاقته بها‮..‬تخرج له لسانها بأسلوب مثير لا‮ ‬يليق بالمكان أو بسيدة محترمة،‮ ‬كانت ومازالت طاغية الأنوثة‮ . ‬
كانت واحدة من حكايات اختبأت تحت‮  ‬تراكمات أحداث العمر‮.. ‬كنت تقريبا في بداية المرحلة الإعدادية،‮ ‬بارعة‮  ‬في الإملاء وكتابة التعبير،‮ ‬جميلة الخط،‮ ‬وكانت‮ ‬يتبمة الأبوين تكبرني بعامين،‮ ‬جريئة،فقيرة،‮ ‬مكتملة الأنوثة،‮ ‬تركت المدرسة بعد أن زاملت أختي في بداية سنوات الدراسة الابتدائية‮ ‬،‮ ‬أختها التي تربيها كانت تقول عنها‮" ‬موش بتاعة علام‮"‬،‮ ‬كانت تملك مفاتيح إدهاشنا‮.. ‬ملابسها المثيرة‮  ‬مكشوفة الصدر،حذاؤها اللامع وحليها الذهبية‮  ‬الكثيرة‮ ‬،عندما تتأبط ذراع الثري العربي الذي عقد قرانه عليها كانت تبدو كنجمات السينما،‮ ‬تتحدث كسيدة مجربة،‮ ‬تؤكد أنها رفضت إتمام الزفاف قبل أن‮ ‬يجهز باسمها بيتا كبيرا،‮ ‬وفي الوقت نفسه تذلها قصة حب مع ابن الجيران طالب الثانوية العامة،‮ ‬يقترض منها لدروسه الخصوصية،حكاياتها مثيرة مقلقة ولا أنكر أنها كانت تمثل عالما‮ ‬غريبا‮ ‬يثير الفضول،‮ ‬كانت تستغل انشغال أمي في المطبخ وتحكي،‮ ‬دون شك كنت وأختي نخدع نفسينا عندما نقول أننا ننصت أملا في تقويمها بتقديم النصح،‮ ‬كانت تقول أن بيتنا كالجنة،تتمني لو كان أبواها علي قيد الحياة لتنعم بتلك السعادة‮ ‬،‮ ‬أذكر تماما اليوم الذي لم تدخل بعده بيتنا‮ .. ‬استدعتها‮  ‬أمي مع أختها‮ ‬،‮ ‬كان حوارا ملتهبا طلبت فيه أمي منها ألا تدخل بيتنا مرة أخري‮..‬صرامة أمي‮  ‬في ذلك اليوم لم أعهدها من قبل،‮ ‬قالت لأختها أن تلك الفتاة‮ ‬غير أمينة علي البيت الذي فتح لها أبوابه‮ ..‬كنت قد حكيت لأمي كل شيء ببساطة‮ ..‬أرعبتني نتيجة فعلتي التي قمت بها تحت إلحاح شديد من الفتاة‮ .. ‬طلبت مني أن أكتب خطابا لحبيبها الشاب ليقابلها في مكان ما،‮ ‬كان قد انصرف عنها ربما لأخري أو خوفا من افتضاح أمره‮ ‬،‮ ‬زعمت أنها تريد الذهاب إلي الطبيب ولا تملك النقود‮  ‬لأن زوجها مسافر،‮ ‬ادعت أنها تريد أن‮  ‬يرد لها بعض ديونه،‮ ‬فإذا بالشاب‮ ‬يرد بخطاب للكاتبة،‮  ‬حملته لها حبيبته الجاهلة دون أن تدري محتواه،‮ ‬كان خطابا‮  ‬يحمل كلمات‮ ‬غزل واضحة‮  ‬لجميلة الخط والأسلوب‮..‬صدمني الخطاب وأثار رعبي‮.. ‬لكن الفتاة لم تفاجأ‮..‬كانت مدركة تماما أنه‮ ‬يمكن ان‮ ‬يفعل ذلك مع أخريات‮.‬
انتقلنا بعد ذلك‮  ‬إلي مسكن آخر وانقطعت أخبارها‮ ..‬
مازلنا في انتظار أطباق الطعام،ومازال زوجي‮ ‬يتحدث إلي ولدينا‮  ‬عبر‮  ‬الهاتف مؤكدا أننا سنعود في العاشرة‮..‬أحدهما سيدخل عش الزوجية قريبا والآخر في نهاية دراسته الجامعية،‮ ‬نكاد نحصد ثمار كفاح جميل ومشقة أزهرت وتكاد تثمر أحفادا سيملأون الدنيا حلاوة وشقاوة،‮ ‬أحدق فيها‮ ..‬صباح‮...‬عرفتها ولم تعرفني،‮ ‬تتحدث بدلالها ولهجتها السوقية وتبدو آثار التدخين الشره واضحة علي صوتها وأسنانها‮..‬تشيح ببصرها عني‮ .. ‬تقول للرجل كلاما‮ ‬يبدو منه أن مابينهما ربما‮ ‬يكون علاقة‮  ‬عمل‮..‬ربما‮  .. ‬تلمع‮  ‬خواتمها وأساورها الذهبية‮  ‬وتخلو أصابعها من خاتم زواج،‮ ‬رغما عني أعاود مراقبتها مع الحذر،تأكل بسرعة ولا تلتفت لتساقط بعض الطعام‮ .. ‬تأتي أطباقنا فأنهمك مع زوجي في حوار هامس حول استعدادات فرح ابننا‮.. ‬أمازحه‮ :‬
ـــ الأولاد كبرونا‮.‬
لا أخطيء صدق‮  ‬ودفء الحب في‮  ‬نبرته‮:‬
ــ‮  ‬لن تكبري أبدا‮. ‬
لم تصبر لينتهي الرجل الذي تصاحبه‮  ‬من دفع الحساب،‮ ‬نهضت لتخرج أولا‮.. ‬أحسست أن أذنها التقطت كلمات زوجي‮ ..‬بدا وجهها ممتقعا حزينا،فاجأتني‮  ‬وهي في طريقها للباب بنظرة مباشرة مكسورة‮ ..‬رأيتها في عينيها‮ ‬يوم أن طردتها‮ ‬أمي من جنتنا‮. ‬

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق