الجمعة، 24 يناير 2014

عفوا سيدى المحقق ..غيبوبة وطن أم شعب؟! "دراسة أدبية فى نص روائى"

عفوا سيدى المحقق ..غيبوبة وطن أم شعب؟!


كتبت – نفيسة عبد الفتاح

يدخلنا الروائى محمود قنديل عبر روايته "عفوا سيدى المحقق" إلى ماأراه دوما مغامرة روائية محفوفة بالمخاطر،فقليلون من يستطيعون الإفلات من مزالق رواية"الصوت الواحد" التى غالبا ما تحتاج إلى مهارة الراوى فى ضبط إيقاع النص وتحقيق أهدافه فى تطوير الحدث وكشف مكنون الشخصيات دون رتابة أو ملل من خلال بطل يتكلم بضمير الأنا من البداية إلى النهاية ،بينما تمثل الشخصيات الأخرى بضمير الغائب،أو بضمير المخاطب"أنت" للحاضر دون صوت المتمثل فى شخصية المحقق، ويمكن القول بأن اختيار قنديل للعنوان"عفوا سيدى المحقق" هو اختيار لعنوان حمال أوجه،حيث لا تجزم الرواية بمصير الراوى الذى من المحتمل أنه أدين فى النهاية،فتكون عفوا هنا بمعنى "صفحا" سيدى المحقق أى طلب الإعفاء من الجرم"البراءة"،أو طلب معروف وفضل المحقق فى استبصار الحقيقة،كما يمكن أن يحمل القارىء العنوان على النحو الدارج فى استخدام اللفظ من أنه اسلوب تأدب فى الحوار يدل على شخصية البطل الذى يتعرض للتحقيق معه طوال الرواية.
نحن أمام نص تتعدد مستويات قراءته،فمن خلال تلك القصة الإنسانية البسيطة التى تتوازى مع قصة حب يعيشها البطل يمكن للقارىء ان يفتح منظور رؤيته لتصبح المريضة الغائبة عن الوعى هى نفسها الحبيبة "خلود" التى تمثل المعنى النهائى والصورة الكاملة "لحالة "الوطن الخالد الذى نظن أننا نحفظه جيدا فى قلوبنا بينما نحن اغتربنا عنه أو ربما ما اعتراه من أمراض هو ما جعل صورته ملتبسة إلى حد أننا نستدعيه من الذاكرة دوما ونتعذب بافتقاده دون أن نتمكن من رؤية حقيقة أنه بين أيدينا نحاول مداواته دون الوصول إلى سر مرضه وهو مانراه واضحا فى تلك الفقرة من الرواية"سيدى،ترى هل ستأتى خلود؟،هل ستعود،قل لى لماذا لم تعد؟لماذا؟لماذا؟لماذا؟
صدقنى إن قلت لك أنى مازلت أنتظرها فكلما نظرت إلى الفتاة وجدت"خلود"وجهها كوجه خلود،عيناها،أنفها،فمها،كأنها خلود..خلوود،خلووود.." حيث تصبح صحوات مريضة الغيبوبة التى تكلمت فى كل واحدة منها بلسان إحدى الشخصيات "إيزيس ــ آسيا ــ خلود" هى جزء لا يتجزأ من إعادة اكتشاف هوية الوطن باستحضار التاريخ والجذور البعيدة التى سطرت منذ الأساطير الأولى لإيزيس رمز الأمومة الخالدة والحب الجارف والوفاء الفريد،ثم آسيا زوجة فرعون رمز هذا التزواج الإجبارى بين الوطن الجميل الطيب الصالح وهؤلاء الحكام الظلمة"الفرعون" الذين لا ينصتون لإرادة شعوبهم ويغرهم السلطان وأسباب القوة.
رسم المؤلف شخصياته بعناية وترك للقارىء استنباط الأحكام عليها، فالشخصية المحورية فى النص هى شخصية الطبيب الذى يبدو مثاليا إلى حد بعيد، يرشدنا حواره مع المحقق إلى مفاتيح شخصيته وتاريخه،بداية من نشأته الدينية ومايتحلى به من ثقافة وعلم وذكاء بما اتاح له القدرة على البحث وتخليق أدوية غير متعارف عليها،كما تبدو شخصيته متكاملة"للوهلة الأولى" بهذه الإنسانية المفرطة التى دعته إلى إنشاء غرفة مجهزة بأحدث الألات الطبية لخدمة أهل منطقته والتى باع لأجل تجهيزها فدانا من الأرض من ميراثه عن والده،إلا ان القارىء لا يلبث أن يكتشف نوعا من السذاجة وحب العزلة وعدم القدرة على المواجهة، بينما نكتشف أن خلود الحبيبة التى سافرت مع والدها أثناء علاجه لكنها لم تعد،هى الشخصية الأقرب للكمال بكل ما تحمله من ثورة على الظلم وقدرة على مواجهته ورغبة فى التضحية والعطاء،ونكتشف أنها الأكثر احتمالا وتفاعلا مع هموم البشر وهو مايصفها به الطبيب"خلود كانت تحمل هموم الناس وهمى" حتى ان تجربة السجن لم تزدها إلا صلابة ،فهى الأكثر تفاؤلا بالمستقبل،واليقين بضرورة الحلم،وربما تكون الجملة المفتاح لهذه الرواية هى الجملة التى جاءت على لسان البطل فى سرده لحوار تم بينه وبين حبيبته خلود"ثم كلمتنى كثيرا عن آخر قراءاتها وعن استنباطاتها وعن هوية غائبة وجذور متخلخلة،كانت كلماتها تحمل بشائر مفتقدة وتتنبأ بروح ـ جديدة ـ قادمة"،كما تمثل خلود الشخصية المصرية المتدينة بطبعها "خلود كانت تتبع الأسباب وإذا استعصت دعت المسبب"ليبقى السؤال معلقا من الذى أفسد كل ذلك ولم يشأ لتلك البشائر أن تكتمل ولتلك الروح أن تحيا؟من الذى أدخل الحبيبة "الوطن"فى تلك الغيبوبة، أو بمعنى أدق:لم يشأ لتلك الثورة ان تكتمل! ..
لقد مثلت نوبات الإفاقة الثلاثة التى مرت بها المريضة صحوات "أو موجات ثورية"لوطن لم يفق بعد من غيبوبته ولم يصل محبوه إلى النور المتمثل فى كرة النور التى رأت مريضة الغيبوبة الطبيب فى منامها يجرى خلفها فإذا بها كرة من نار تحرق يديه..وكأن الرواية تؤكد لنا أن مارأيناه خلاصا ماهو إلا فخ أوخداع بصر يحيد بنا عن الهدف الجميل الذى تحدده خلود فى حوارها مع البطل"المطلوب منا فقط أن نبحث عن قوة النور،لنهزم عتمة الظلام"،ولا تدع الرواية القارىء دون أن تبثه الأمل وهو ماتؤكده مقولة الطبيب"لا يوجد عندى أدنى شك فى عودة الفتاة إلى وعيها،المسألة محتاجة صبر،مجرد صبر"ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا".
لا يخرج مكان الرواية عن غرفة التحقيق بالنيابة فى زمن امتد لساعات هى مدة هذا التحقيق،بينما الشخوص التى تحيط بالطبيب هى شخوص العالم الحقيقى بما فيه من خير وشر وعلم وجهل يصدق بالخرافة وزيف وأصالة، وقد استخدم الروائى تقنية استرجاع الأحداث على خطين متوازيين أحدهما للمريضة التى اتهم الطبيب باختطافها بينما كان يريد مداواتها بعيد عن الإمكانات القاصرة للمستشفى الذى يعمل به، والآخر للحبيبة "خلود"،والنص من النوع الذى يحتشد بالقيم الأخلاقية الرفيعة دون تزيد نظرا لطبيعة شخوصه،وهو ماجعل الاستشهاد بالآيات القرآنية وآبيات الشعر أمرا مناسبا لشخصية الطبيب،تماما كما خلق تكراره لعبارات الثناء على المحقق وثقته بنزاهته حالة من تشكك القارىء فيما يمكن ان تؤدى إليه تلك الثقة غير المحدودة فى نزاهة من يمثل السلطة ويجيد التعامل مع كل شخصية بما يناسبها للوصول إلى كل مايريد، كما خلقت احساسا بسذاجة الطبيب الذى ربما كانت لديه خبرات علمية لكنه يفتقر إلى الخبرات الحياتية
والسرد فى مجمله غير مترهل ولا يمكن اعتبار أن إفراط الطبيب "بعض الشىء"فى استعادة بعض الذكريات الدالة على نشأته الدينية وعلى تحليه بالخلق الرفيع ،هو محاولة منه لاستمالة المحقق لأنه أمر لا يتفق مع شخصية الطبيب التى تميل إلى النقاء والصدق،وقد يرى البعض أن هذا الإفراط يدخل فى حدود المسموح الذى تتيحه شخصية الطبيب قليل الخبرة بالحياة الذى يدافع عن مبادئه فى موقف ملتبس يخضع فيه للتحقيق لأول مرة فى حياته مع اكتشافه للوجوه الحقيقية للمحيطين به بخيانة زميل العمل الذى أحسن إليه، والاتهامات التى طالت أخلاقه عن مبررات نقله للفتاة إلى بيته، مع ضرورة الإشارة إلى وقوف الأغلبية إلى جواره وتعاطفهم معه، إلا أننا نرى أن شيئا من الاقتصاد فى استرجاع تلك الذكريات ربما كان أفضل لسخونة الإيقاع. بينما تتسم لغة الكاتب بالبساطة والجمال بما يتلاءم مع طبيعة النص وتتميز المعلومات الطبية بالدقة،وكجزء لايتجزأ من النص يمكننا أن ننظر إلى الإهداء الذى كتبه المؤلف "إلى المهاجرين إلى غيبوبة لا تزول" فهو إهداء لايشير فقط إلى التعاطف الإنسانى لكنه يحمل قدرا من الأسى والحزن هو بالتأكيد لا يشير فقط إلى البشر الذين غيبتهم قوى أو أسباب لا نعرفها وإنما يشير أيضا كما فهمنا من النص الروائى إلى شعوب بأكملها وربما إلى اوطان تغيبها قوى أو أسباب مازلنا عاجزين عن التغلب عليها أو ربما عاجزين أيضا عن فهمها.